عن الغربة والترحال والعودة

02:57 2021/06/12

يعود المسافرون إلى قراهم، يبحثون عن مخبأ لشوق فقدوه، لحب تركوه للنساء العفيفات، لم يجدوا صيغة للتعبير عن وفائهم إلا العودة إلى أحضان موطنهم الأول. تبرز حكايات ذلك الألم الذي تموضع في قلوب الذين قطعوا المسافات الطويلة لمواجهة متطلبات مساكنهم وتربية أطفالهم الصغار، يمرون على جحيم الطرقات وازدراء الهوية للمسافرين ولم يكبت ذلك الشوق الذي استوطن لمن يتمنون الوصول إليهم. يمتلئ حديث المسافرين عن وصف معاناتهم كيف يتم ازدراء عودتهم من قبل البعض، يقولون لماذا يقل صمودهم ويعودون ويصفون ذلك بفشل المغترب، تنتابهم غرابة كيف أنّ المجتمع قاس لا يعي معنى الاغتراب وأن تعيش جزءاً كبيراً من حياتك بالألم والحنين وسيل من الشوق دون إجابة بتعبير المهاجرين.
 
لقد وحدت الحرب الجميع تحت مظلة الاغتراب، البعض هاجر للنزوح، والبعض الآخر عكف على اعتياد الهجرة منذ نشأته. وجزء من هؤلاء المنسيين لم يلمسوا الثناء أو الرضا من ذويهم، فلك أن تتألم وتتآكل أعضاؤك حتى يشعر بك الجميع عندما تنقطع عنهم خيرات ما جنيته. وفي مفهوم امرأة المنزل، لا تثرثر، فأنت كغيرك من الرجال في الأرض، عليك أن تمضي دون شكاء، لا يجب أن تبكي كالنساء أو الأطفال. وعلى جنبات الليل المهول المليئ بالعناء للراحلين المهاجرين، تستيقظ الأم تشكي للطيور المهاجرة ولسكون الليالي تدعو لمن غادروا البلاد أن تستقر نفوسهم ويكونوا أقوياء. لقد جعل حديث الأم ونداءاتها نافذة انتصار تعيد توازانات الاضطهاد الذي يعيشه المغتربون.
 
حتى يوم عودتنا إلى أسرنا، نظل نهمهم في غد لا نتمنى عودته، وصوت لا نريد سماعه، نتساءل هل علينا أن نعود ثانية إلى المنفى حيث لا نشعر باللذة والألم مع أطفالنا الذين قدموا كي يرونا أمامهم يشعرون بالقوة والسعادة.
 
وعندما نعود إلى الوراء، نتذكر كيف تعلمنا في المدارس أن اليمن السعيد جميل يلتف على امتداد البحار والموارد، وكبرنا لنرى أنفسنا معزولين عن الجغرافيا والتاريخ، وجدنا الحصار يلف عيون المغتربين. تنطوي المسافات في أعماق الزمن وتتراكم أوجاعنا ولا أحد يكترث لمصيرنا المجهول.
 
اعتادت النساء انتظار العائدين، يستقبلونهم بالفرح وتتزيّن المنازل بأبسط الإمكانات، تكتمل السعادة عندما يغادر الغبار أوجه العائدين، أما الآن فقد انطفأت القرية والمدينة معاً، تبدو المنازل حزينة دون أثر للضوء بفعل انقطاع الخدمات، باتت المرأة تذهب إلى فراشها مع اختفاء شمس الأصيل، حيث يصبح عودة الرجل محاطة بالآلام. لقد أصبحت القرية هادئة لا يُسمع فيها إلا أصوات الكلاب، اختفت كل المعالم بفعل تغير سلوكيات الإنسان والحروب التي أسقطت كل أمل في الآفاق. 
 
يقاوم المغتربون نفوسهم يمنعونها أن تستلذ بأبسط الأشياء بغية ادخار أجورهم إلى حين عودتهم وإسعاد أسرهم باليسير من المال طوال فترة العام، والبعض الآخر لم يكن المال حليفاً له، تنتابهم الخيبة ولا يريدون أن يعودوا عندما يفكرون أن هناك من ينتظر عودتهم بلهف. 
 
إن تجربة الاغتراب فكرة عابرة لمن جنوا المال بتسلية وسايروها بهزل، وهي أيضاً منهاج وطريق لمن خبر الأسفار، وأراد أن يصنع لحياته اختلافاً ناصعاً.
 
#فيسبوك